تشهد العديد من البلدان انخفاض معدلات المواليد وارتفاع متوسط العمر المتوقع، في جميع أنحاء العالم، وخاصة دول القارة الأوروبية. ويثير هذا التراجع السكاني قلقًا كبيرًا في الأوساط السياسية والاقتصادية الأوروبية؛ لما له من آثار سلبية على النمو الاقتصادي الأوروبي.
فتراجع عدد الولادات يعني نقص الأيدي العاملة وارتفاع نسبة الشيخوخة، وبالتالي زيادة الإنفاق على معاشات التقاعد الذي قد يؤدي إلى عجز أوروبا عن تحقيق تطورات اقتصادية تضمن لها التفوق أمام قوى الاقتصاد العالمية الأخرى. ونتيجة لذلك؛ فإن هذه البلدان معرضة لخطر أن تصبح «قنابل زمنية ديموجرافية» في المستقبل.
وقد أكدت الأمم المتحدة مخاوفها السابقة من الانخفاض الحاد في عدد السكان في جنوب شرقي أوروبا، ما يهدد قدرة دول المنطقة على الحفاظ على الخدمات الاجتماعية الأساسية، في الوقت الذي يسعى فيه شبابها إلى فرص في الخارج. إذ تشير التوقعات إلى أن الدول العشرة الأولى الأسرع تقلصًا في عدد سكانها جميعها من شرق أوروبا ووسطها، من بينها سبع دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وقالت ألانا أرميتاج، مديرة صندوق السكان لشرق أوروبا ووسط آسيا التابع للأمم المتحدة، إنه من المتوقع أن تفقد بلغاريا ربع عدد سكانها بحلول عام 2050، وأن ينخفض عدد سكان كل دولة في المنطقة خلال العقود المقبلة؛ «لأن من يهاجرون منها أكثر ممن يهاجرون إليها، وكذلك بسبب انخفاض معدل المواليد».
وتظهر التنبؤات أنه بين عامي 1995 و2035 ستتضاعف أعداد السكان الذين يبلغون من العمر 65 عامًا فأكثر في معظم تلك الدول، وستبلغ تلك الأعداد ثلاثة أمثال في بعض الدول. كما ستواجه معظم تلك الدول أزمات حادة في الأيدي العاملة؛ مما يعيق النمو ويضعف أملها في اللحاق بأوروبا الغربية.
هذه هي أسباب انخفاض أعداد السكان في أوروبا
حسب تقرير الأمم المتحدة الذي صدر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإن أسباب الانخفاض السكاني في القارة الأوروبية يرجع إلى عدة أسباب:
– انهيار الاتحاد السوفيتي وتوسيع الاتحاد الأوروبي
سمحت هذه الأحداث بحركة أكبر للمواطنين بين الدول السوفيتية السابقة، بالإضافة إلى أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والذي يسمح بحرية الحركة للأشخاص، شجَع العديد من المواطنين على البحث عن الفرص في أماكن أخرى.
وأشار التقرير إلى أن لاتفيا فقدت منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في مايو (أيار) 2004، خُمس سكانها. فقد انخفض عدد سكان لاتفيا انخفاضًا مطردًا من الذروة التي بلغت 2.66 مليون في نهاية الحكم السوفيتي، إلى 2.38 مليون في عام 2000. وقد انخفض الآن أقل من مليوني شخص، وحسب التقرير، فإن هذا المشهد يتكرر في ليتوانيا المجاورة، التي تضم واحدة من أسرع التجمعات السكانية في العالم في الانخفاض.
– الركود الاقتصادي
جزء من قصة الهجرة الجماعية من أوروبا الشرقية، ففي بلغاريا، يكون التراجع السكاني أكثر وضوحًا في المناطق الريفية، خاصة في الشمال الغربي، الذي يعد أفقر منطقة في أفقر بلد في الاتحاد الأوروبي. ويصل متوسط الراتب في بلغاريا هو 575 يورو في الشهر، ومتوسط المعاش الشهري هو 190 يورو، وكلاهما هو الأدنى في الاتحاد الأوروبي.
وبالمثل، فإن المنطقة الأكثر فقرًا في لاتفيا، تشهد أكبر عجز في عدد السكان، ويبلغ متوسط الأجر الشهري فيها 670 يورو فقط في الشهر. ولذلك فإن الأجور المنخفضة، جنبًا إلى جنب مع مستويات معيشة أفضل في أماكن أخرى، تدفع العمل غربًا نحو ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة حيث يبحث الناس عن فرص أفضل لأنفسهم وعائلاتهم.
– زيادة عدد الوفيات
أشار تقرير الأمم المتحدة السابق إلى إلقاء اللوم على انكماش السكان، بوصفه عاملًا سببيًّا في زيادة الوفيات، وذلك بسبب تأثير «هجرة الأدمغة». فقد فقدت رومانيا نصف أطبائها المؤهلين بين عامي 2009 و2015 الذين سعوا للحصول على أجور أفضل في الغرب، ما أدي إلى ارتفاع معدلات الوفيات ووفيات الرضع في البلاد.
وحسب دراسة نشرها معهد ماكس بلانك للبحوث الديموجرافية في مدينة روستوك الألمانية، فإن انخفاض معدلات الإنجاب في دول أوروبا يرجع أيضًا إلى أسباب أخرى، من بينها:
– ارتفاع نسبة البطالة
تعد البطالة أحد الأسباب وراء انخفاض معدلات الإنجاب في أوروبا، بسبب توجه النساء للبحث عن العمل لمساعدة شريك الحياة. كما أن طول المرحلة الدراسية وتطلعات الشباب الأوروبي إلى تحسين مهاراتهم العملية من أجل الحصول على أماكن عمل بدخل عال، من أهم العوامل التي تدفع الشباب إلى العزوف عن التفكير في تأسيس أسرة وإنجاب الأطفال.
– القيم الاجتماعية
يرى خبراء التزايد السكاني – حسب الدراسة السابق ذكرها- أيضًا أن القيم الاجتماعية التي سادت في أوروبا حتى سبعينيات القرن الماضي، والتي تمنع إنجاب الأطفال بين أي شريكين بدون زواج رسمي؛ كان لها ثأثير سلبي في معدل الولادات في أوروبا. فقد أثبتت الدراسة ازدياد عدد الأطفال في بعض البلدان الأوروبية التي سمحت فيها تحولات القيم الاجتماعية لاحقًا بتقبل إنجاب الأطفال بدون زواج، كما في أيسلندا.
– انخفاض معدلات الخصوبة
حسب تقرير للأمم المتحدة صدر في 17 يونيو (حزيران) الماضي، فإن معدل الخصوبة العالمي – الذي كان قد انخفض إلى 2.5 ولادة لكل امرأة عام 2019، مقارنة بمعدل 3.2 عام 1990 – سيواصل الانخفاض أيضًا إلى أن يصل إلى معدل 2.2 ولادة لكل امرأة عام 2050. وأكد التقرير أن مستوى الخصوبة المطلوب لضمان استبدال الأجيال وتجنب انخفاض عدد السكان على المدى الطويل في غياب الهجرة، ينبغي أن يبلغ 2.1 مولود لكل امرأة على الأقل.
فيما أوضحت ورقة بحثية منشورة بعنوان «التحول الديموجرافي الأسباب والعوامل»، أن ارتفاع دخل الأفراد تسبب في انخفاض معدلات الخصوبة، ما أدى لانخفاض عدد المواليد، إذ إن انخفاض الخصوبة كان نتيجة ثانوية لارتفاع الدخل والزيادة المرتبطة في تكلفة الفرصة البديلة لتربية الأطفال.
تراجع إنجاب الأطفال يهدد أوروبا!
ووفقًا لتقرير الأمم المتحدة، فإن انخفاض عدد السكان يتسبب في العديد من العواقب الاقتصادية الضارة التي يصعب التخفيف منها بالكامل. فهجرة العمال الأوروبيين الأصغر سنًّا، ومغادرة بلادهم مع أطفالهم للحصول على أجور أفضل في دول أخرى، قد يؤثر في عدد العمالة داخل الدول الأوروبية، في الوقت الذي يزداد فيه أعداد كبار السن، الأمر الذي يؤثر في اقتصاد هذه الدول.
وأشار التقرير إلى أنه من المتوقع حدوث تراجع في النمو الاقتصادي يتراوح بين 0.5 و1% سنويًّا على مدار 15-20 سنة القادمة. ما يعني عددًا أقل من العمال، وانخفاض الإنتاجية، وانخفاض الإنفاق العام على السلع العامة، وعبء الدين الوطني المستقبلي، مما يجعل الاقتصاد مشوهًا.
وكان معهد ماكس بلانك للبحوث الديموغرافية في مدينة روستوك الألمانية قد نشر دراسة دق فيها ناقوس الخطر، محذرًا من تعرض القارة الأوروبية لتراجع كبير في عدد السكان. وأظهرت هذه الدراسة ارتفاع أعداد الشيخوخة في ميزان النمو الديموجرافي في أوروبا مقارنة بمعدل الولادات.
وحسب الدراسة فإن عدد كل جيل سيقل عن سلفه بنسبة 25%، وبحلول عام 2050 سيتناقص عدد سكان دول أوروبا بنحو 50 مليون نسمة، كما أن متوسط الأعمار فيها سيزيد 10 أعوام.
ألمانيا.. الجنس الألماني قد يندثر
في مقال منشور بصحيفة «الجارديان»، أشار إلى أن عدد سكان ألمانيا يتناقص سريعًا، للحد الذي يشكل خطرًا على زوال الجنس الألماني من على وجه الأرض. وتثير هذه القضية قلقًا بالغًا، ففي عام 2010 سُجلت نسبة المواليد 7.88 لكل ألف شخص بانخفاض 16% عن الأعوام العشرة السابقة، علاوة على أنه خلال جيل من الزمن سيصل عمر نصف سكان ألمانيا إلى أكثر من 60 عامًا.
وقالت وزيرة شؤون الأسر في ألمانيا، رينيت شميدت، في عام 2002، إن الحكومة بحاجة إلى رفع معدل المواليد، مضيفة أنه «من دون أطفال ستكون ألمانيا أمة من العجائز، وأنه إذا ما استمرت ألمانيا بمعدل مواليدها الحالي، فإن الأمة الألمانية ستمحى عن الوجود بعد 300 عام، وهي فترة ليست بالطويلة في عمر الأمم».
إسبانيا.. من أدنى الدول الأوروبية في معدلات الخصوبة
توجد في إسبانيا واحدة من أدنى معدلات الخصوبة في الاتحاد الأوروبي، إذ يبلغ متوسط عدد الأطفال المولودين لكل امرأة في سن الإنجاب 1.27، مقارنة بمتوسط 1.55 في الاتحاد الأوروبي. وقد شهدت الأزمة الاقتصادية المعطلة هجرة جماعية لأشخاص من البلاد، إذ يغادر مئات الآلاف من الإسبان والمهاجرين على أمل العثور على وظائف في الخارج. والنتيجة هي أنه منذ عام 2012، تقلص عدد سكان إسبانيا
علاوة على وجود مقاطعات في إسبانيا، يموت فيها أكثر من شخصين لكل طفل يولد، والنسبة تقترب من واحد إلى ثلاثة، علاوة على أنه في منطقة أراغون بشمال شرق إسبانيا، يبلغ عدد سكان مدينة، ما يقرب من الصفر ولا يوجد ولادات بها.
دول أخرى مهددة بشبح الانقراض
البرتغال: يتقلص عدد السكان فيها منذ عام 2010. وتشير توقعات المعهد الوطني للإحصاء إلى أن عدد سكان البرتغال قد ينخفض من 10.5 مليون إلى 6.3 مليون بحلول عام 2060.
وبحلول عام 2050، ستكون البرتغال هي الدولة التي تضم أصغر نسبة من الأطفال، إذ إنه من المتوقع أن يكون 11.5% فقط من السكان دون سن 15 عامًا، بينما سيتم تحويل محطات البنزين والموتيلات إلى دور رعاية المسنين.
إيطاليا: يرتفع عدد السكان المتقاعدين فيها، ومن المتوقع أن ترتفع نسبة الذين تجاوزوا الخامسة والستين من 2.7% في العام الماضي إلى 18.8% في عام 2050.
بولندا: أعلنت الأمم المتحدة أن الخبراء الديموجرافيين يتوقعون انخفاض عدد السكان في بولندا بحوالي 40% بحلول عام 2100.
بلغاريا: يتقلص عدد سكان بلغاريا أسرع من أي بلد آخر في العالم؛ ومن المتوقع أن يصل إلى 5.4 مليون فقط في عام 2050. بالإضافة إلى ذلك، شهدت البلاد زيادة في الهجرة؛ إذ يبحث المواطنون عن فرص عمل في أماكن أخرى، ويبلغ معدل الخصوبة في بلغاريا 1.46 طفل لكل امرأة.
وتشير التقديرات أيضًا إلى أن عدد سكان أوكرانيا، وكرواتيا، ورومانيا، ومولدوفا، وليتوانيا، وبولندا، وصربيا، والمجر، سينخفض بنسبة 15% بحلول عام 2050.
كيف يمكن مواجهة هذا الخطر؟
يستلزم الوضع الراهن في دول أوروبا اتخاذ العديد من الإجراءات لمواجهة مشكلة التراجع السكان منها الآتي:
تبني الهجرة إلى الدول الأوروبية وتشجيعها
يساعد ذلك في تقليل معدلات الانخفاض السكاني داخل الدول الأوروبية، مع ضرورة انتخاب قادة معتدلين في هذه الدول لفتح باب الهجرة وعدم فرض القيود عليها. فقد أظهرت الدراسات، الدور الفعال الذي ساهمت فيه النساء المهاجرات إلى أوروبا في ارتفاع معدل الإنجاب في العائلات المهاجرة في كل من هولندا، وبريطانيا، والبرتغال، والنمسا، وإيطاليا، وألمانيا، وفرنسا، وإسبانيا من 3 إلى 8% بين عام 1997 وعام 2006.
وبفضل الهجرة، ارتفع عدد سكان ألمانيا لمستوى قياسي، وأكد مكتب الإحصاء بألمانيا في 25 يناير (كانون الثاني) 2019، أن عدد سكان البلاد وصل إلى 83 مليون نسمة بسبب الهجرة الوافدة إليها. وأظهرت البيانات أن صافي عدد المهاجرين في 2018، وصل إلى 380 ألف مهاجر.
تطوير السياسات الأوروبية
وتحديدًا السياسات التي تشجع على الإنجاب. وذلك من خلال نص قوانين تدعم المرأة العاملة، بتوفير دور الحضانة المؤهلة لرعاية الرضع والأطفال الصغار، مما يُمكِّن الأمهات من العودة بسرعة إلى الحياة العملية بعد الولادة. إضافة إلى المساواة بين المرأة والرجل في المسؤوليات المتعلقة بشؤون الأسرة والأطفال.
فمثلًا في إيطاليا، أعلن رئيس الوزراء ماتيو رينزي، عن خطط لمنح الأزواج ذوي الدخل المحدود «مكافأة أطفال» شهرية بقيمة 80 يورو، علاوة على تقديم 700 يورو شهريًّا لمدة ثلاث سنوات للوافدين الجدد حال انتقالهم للعيش في إقليم موليزي (جنوب إيطاليا)، وذلك بعد انخفاض عدد سكانها في السنوات الأخيرة.