الأنفلونزا الإسبانية قتلت الملايين، لكنها حولت السويد للدولة المزدهرة التي نعرفها
في 15 سبتمبر/أيلول 1918، كتب الصبي كارل كارلسون، الذي كان يبلغ من العمر 12 عاماً ويعيش في مدينة أوسترسوند بالسويد، في مذكراته اليومية القصيرة: «مات اليوم اثنان بسبب الإصابة بالأنفلونزا الإسبانية. وكانت هناك القليل من ندفات الثلج المتساقطة».
رغم إيجاز المذكرات وطابعها الواقعي، اتسمت يوميات كارلسون بالكآبة. واليوم مر 100 عام منذ أن ضربت العالم سلالة فتاكة من فيروس أنفلونزا الطيور، عُرفت باسم الأنفلونزا الإسبانية على الرغم من أنَّ أميركا كانت منشأها، وأدت إلى وفاة ما بين 50 مليون و١٠٠ مليون شخص وفي حين كانت آثارها ملموسة في جميع أنحاء العالم، ضربت الأنفلونزا بقوةٍ مدينة أوسترسوند على وجه الخصوص، لتحمل المدينة اسم «عاصمة الأنفلونزا الإسبانية».
يقول جيم هيدلوند، لصحيفة الغارديان، وهو موظفٌ بالأرشيف الحكومي للدولة: «النظر في تقارير تلك الفترة يبعث على الخوف كثيراً. كان عدد المتوفين خلال شهرين عدد المتوفين نفسه على مدار سنة بوجهٍ عام. حتى إنَّني اكتشفتُ أنَّ ثلاثةً من أسلافي قد دُفنوا في اليوم نفسه!».
لماذا هاجمت الأنفلونزا الإسبانية هذه المدينة بالتحديد؟
كانت هناك 3 أسباب رئيسية وراء مهاجمة الأنفلونزا الإسبانية تلك المدينة النائية بشدة: تحظى مدينة أوسترسوند بشبكات سكة حديدية سريعة، وكذلك تتمركز الكثير من قوات الجيش في أماكن قريبة منها، وأخيراً يكتظ سكانها الذين يعانون سوء التغذية داخل مساكن ضيقة. ونظراً إلى أنَّ السويد، التي اتخذت موقفاً حيادياً في الحرب العالمية الأولى، أبقت جيوشها في حالة تأهب قصوى بين عامي 1914 و1918، تضخم عدد السكان بالمدينة التي كانت موقعاً عسكرياً من 9 آلاف إلى 13 ألفاً.
وبحلول عام 1917، عندما أتى البحارون إلى المدينة وبدأت أعمال الإنشاء على خط سكة حديدية داخلي باتجاه الشمال، نتج عن ذلك نقصٌ في الغذاء على نطاقٍ واسع، أدى إلى مظاهرات عنيفة قادها العمال، إضافةً إلى أنَّ وحدات الجيش أوشكت على التمرد.
أصبحت المدينة بؤرة للنشاط السياسي. ونظراً إلى مساحتها الصغيرة، سُلِّط الضوء على التوزيع غير العادل للثروة داخل هذا المجتمع الصناعي الناشئ. وفي حين تكدست أفراد الطبقة العاملة في مساكن غير صحية، أتى السائحون الأثرياء من مناطق أخرى بالسويد وخارجها لاستنشاق الهواء النقي للجبل والاستشفاء بالمياه العلاجية، إضافةً إلى صيد السمك الممتاز وصيد الإلكة (وكان ونستون تشرشل المولع بصيد الأسماك زائراً معتاداً).
يقول هيدلوند: «بدت العديد من مخاوف المتظاهرين مناسِبة لعصرنا إلى حدٍ مذهل»، مشيراً إلى نسخة من ملصق سياسي مكتوب عليه: «نريد أن يخرج السياح من مبانينا في أوقات الأزمات. ونطالب بالزبدة والحليب والبطاطس للعمال!».
الظلم أدى لتفاقم المرض
لم تكن طبقة العمال الحضرية فقط هي التي تطالب بسكنٍ أفضل. ففي أول مؤتمر وطني لشعوب سامية الأصل أُقيم في أوسترسوند بأوائل عام 1918، طالب المُفوَّضون بوضع حد للسياسات التمييزية التي أجبرتهم على العيش في الخيام.
وأدى الظلم الاجتماعي في المدينة إلى إصابة جميع الفئات بقوة بالأنفلونزا الإسبانية.
ومع احتدام الوباء أواخر أغسطس/آب 1918، وصلت حالات الوفاة إلى نحو 20 شخصاً يومياً، واضطر كارل ليغنيل، مدير بنك المدينة، إلى سحب الأموال من ستوكهولم دون إذن، وصادر مَدرسة وحوَّلها إلى مستشفى؛ إذ لم يكن هناك مستشفى بالمدينة.
ويُكمل هيدلوند: «لو لم يتدخل كارل، لربما كانت أوسترسوند اختفت حرفياً». ولفترةٍ وجيزة، تولى ليغنيل دور الديكتاتور الخيِّر، وعزل الحالات المشتبه فيها بمنازلها، كاشفاً الغطاء عن البؤس الذي كانت تعيش فيه مدينته.
ومع تنقُّل فريقه الطبي بعجالة عبر أوسترسوند، وجدوا عائلاتٍ بأكملها متكدسة داخل أكواخ خشبية على بُعد بضعة شوارع فقط من المباني المبنيَّة من الأحجار الفاخرة. وفي بعض المنازل، كان الأطفال المرضى يرقدون على الأرض؛ بسبب نقص الأسرَّة.
ووَجَّهت الصحيفة المحلية Östersunds-Posten سؤالاً بلاغياً: «من منا كان يظن أنَّ مدينتنا الجميلة يمكن أن تعاني مثل هذا الفقر المدقع؟».
الدولة لم تثبت جدارتها، لكن المواطنين فعلوا
بدأ الناس من جميع القناعات والمواقع السياسية في الحياة بالتعاون في مدينة مزَّقتها الانقسامات الطبقية للمجتمع الصناعي الناشئ. ولم يقتصر دور الصحيفة نفسها على مجرد الإبلاغ عن الوباء؛ بل تحولت إلى المساعدة في تنظيم عمليات الإغاثة، ونشر دعواتٍ لجمع المال والطعام والملابس، وفتح مكاتبها لاستخدامها غرفاً للتخزين. وثبت أنَّ الدولة لا تتمتع بالكفاءة، كما كتب المؤرخ هانز جاكوبسون: «الانتشار الكارثي للأنفلونزا الإسبانية عام 1918 كان بنسبة كبيرة بسبب ارتباك السلطات وردود الفعل الخرقاء».
واستشهد بحقيقة أنَّ القيادة العليا في ستوكهولم رفضت إيقاف التدريبات العسكرية المزمعة أسابيع، رغم حقيقة أنَّ المصحات العسكرية كانت تنضح بالمرضى. ويقول هيدلوند: «الشيء المثير للاهتمام هو أنَّه بعد انقضاء مرحلة الوباء، أوقفت الدولة التحقيقات ضد لينغيل، واتخذت خطوات تجريبية نحو نهجٍ تعاوني للإصلاح الاجتماعي. وأصبحت قضايا سوء التغذية والإسكان على الأجندة السياسية». ولا يمكن لأي شخص يحاول معرفة تاريخ بداية السويد كدولة مزدهرة أن يتجاهل أحداث خريف 1918.
بعد مرور 100 عام، أصبحت أوسترسوند من أفضل المدن التي يمكنك فيها أن تلمس آثار النموذج الاجتماعي الذي تتباهى به السويد. تنمو المدينة سريعاً أيضاً في الوقت الحالي، لكن لا شيء يبدو مستبعداً بقدر الأوبئة والراديكالية السياسية. والاشتراكيون الديمقراطيون من تيار يسار الوسط يتولون السلطة في مجلس المدينة منذ عام 1994، وجعلت رئيسة المجلس، آنصوفي أندرسون، مشكلة السكن ضمن أولوياتها، والمشروعات الجديدة فسيحة ومنظمة جيد وتضم المدارس والملاعب.
وتقول آنصوفي: «لا شيء يعكس الشعور بالثقة مثل عمليات البناء. في الحقيقة يجب أن تحافظ شراكة السلطة المحلية المسؤولة عن البناء، من وجهة نظري، على فائض صغير من الشقق؛ لأنَّه دون وجود سكنٍ احتياطي لن ينتقل الناس للعيش هنا».
تجذب أوسترسوند عدداً من الأشخاص من جنوب السويد. وتقول آنصوفي: «ما يجذبهم جزئياً هو جودة المعيشة؛ إذ يمكنك أن تضع أطفالك في روضة الأطفال بالصباح وأنت ذاهب في طريقك إلى العمل، ثم تخرج للتنزه أو التزلج على الجليد في وقتٍ متأخر بعد الظهر».
تعافت المدينة من نقل سرب الطائرات المقاتلة للقوات المسلحة السويدية في التسعينيات عن طريق استغلال نقاط قوتها: الرياضة والسياحة. وتوجد جامعةٌ الآن محل الثكنات القديمة، تركز بشكل خاص على مواد وتكنولوجيا الرياضة. وتحولت القاعدة الجوية إلى مطار مزدهر يتعامل مع نصف مليون مسافر سنوياً.
مدينة مزدهرة.. لكن مستقبلها يقلق البعض
وعلى الرغم من وفود أشخاص في سن العمل إلى المدينة باستمرار، فإنَّ أوسترسوند تواجه تحدياً ديموغرافياً؛ إذ بدأ جيل طفرة الإنجاب في التقاعد من العمل. والنقص في أسوأ حالاته فيما يتعلق بسلطة الصحة الإقليمية، التي تشغل المبنى الذي حوّل كارل ليغنيل غرفه سريعاً إلى أجنحة للرعاية، في أثناء وباء الأنفلونزا الإسبانية؛ إذ من الصعب العثور على أفراد للعمل بالطاقم الطبي مدة طويلة، وكذلك تعاني الخدمات الصحية بالمنطقة نقص التمويل. وما يزال بعض السكان يقترحون حل نقص التمويل اعتماداً على الحكومة المركزية كما فعل ليغنيل.
مع ذلك، لا يكرر التاريخ نفسه؛ إذ يميل النموذج السياسي التوافقي الآن في السويد نحو تهدئة أجواء النزاع، حتى في المدن الراقية التي تتباهى بالحرية والاستقلالية. وتمثلت إحدى الاستراتيجيات التي اتبعها أندرسون للتعامل مع النقص الوشيك للعمالة، على سبيل المثال، في التعاون مع المؤسسات الوطنية والمحلية لتدريب اللاجئين الذين استقبلتهم المدينة منذ عام 2015.
كتب كارل كارلسون بمذكراته في 4 سبتمبر/أيلول عام 1918: «ستبدأ المدارس غداً، للمرة الأخيرة. سأرحل في الربيع والأمر يبعث على الكآبة. أحب العمل بالزراعة، لكنِّي أُفضِّل الاستمرار في المدرسة والدراسة. وهذا مستحيل». وبعد مرور 10 أيام، أشار في مذكراته إلى أنَّ مخازن الطعام الخاصة بعائلته أوشكت على النفاد. وأردف: «لقد نفد منا تقريباً الدقيق والخبز، لكنَّ الشعير لم ينفد بعد. لن نتمكن من الحصول على المزيد من المؤن؛ إذ إنَّ كل شيء يخضع للمصادرة».
وبعد مرور 100 عام، تحولت المدينة التي كانت في وقتٍ ما عاجزة عن تعليم شبابها أو حتى إطعامهم لتصبح واحدةً من أغنى مدن العالم وأكثرها رفاهية.اقترح تصحيحا
عربي بوست